يوسف حمدان - «رائحة التمر حنة» نصوص للروائي المعروف رشاد أبو شاور، صدرت في العام 1999، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، وتقع في 208 صفحات من القطع المتوسط، وقد أهدى المؤلف هذه النصوص إلى ناجي العلي وحنا مقبل..
يضم الكتاب 13 نصا هي: آه يا وطن، ذكرين ما زالت بعيدة، عكا لا تخاف هدير البحر، غزة أرض البأس والبؤس، جحيم على جسر اللنبي، قدس الوجد والحزن، التعرف إلى نابلس، هذا (النصف سم) من الطيبة، تحت شمس أريحا، الوقوف على الجسر، تأمل جبل أبو غنيم، التعميد، وينك يا ناجي العلي؟».
حميم جدا هذا الكتاب، ونصوصه تلتصق بذاكرة القارئ ووجدانه كالتصاق الرضيع بصدر أمه، والتصاق تراب الأرض بأشجارها، فهو كتاب الشجن، والدموع، والحسرات، وأشياء أخرى كثيرة لا يعرفها إلا أبناء فلسطين المشردون والمنفيون، جيل هجرة 1948، ونزوح 1967..
والقاص إبراهيم العبسي خير مثال على تلك الحميمية وذلك الشجن الظامئ والوجدان الملتهب، والدموع التي كثيراً ما غسلت بحسراتها دروب الغربة والمنافي وأصقاع الأرض المبتعدة إلى كل مكان وأي مكان عن صدر الأم الحنون فلسطين، فإبراهيم منحته صروف الدهر أخيراً فرصة عودة (زيارة) إلى مدينة أريحا التي لجأت إليها أسرته من قريتهم الدوايمة في العام 1948 وأقامت في مخيم عين السلطان حيث نشأ إبراهيم وترعرع، حتى أصبح رجلا في ظلال جبل قرنطل والتلال المنحنية بالحنان الكثير، ذلك الذي رضع منه أطفال المخيمات المترامية في اتجاهات أريحا الأربعة.. وهناك في الاستراحة الواقعة على طريق الجسر إلى الشرق من أريحا انتظر إبراهيم مستقبليه الذين أرسلوا له تصريح الزيارة.. لكنهم لم يأتوا..
«قال إبراهيم: انتحيت جانباً وانفجرت بالبكاء ووجهت وجهي صوب جبل قرنطل وصحت: ولك يا جبل أنسيتني؟ أنا إبراهيم، إبراهيم العبسي، من مخيم عين السلطان، أنا جارك وصاحبك أيام الطفولة، أنا إبراهيم الدوايمي.. تعال، تعال أنت استقبلني وسلّم عليّ وخذني بين ذراعيك».
لم يكن ذلك شأن إبراهيم وحده، فرشاد أبو شاور كاتب النص كان قد نشأ وترعرع في مخيم النويعمة المجاور.. والظروف نفسها، و «الحال من بعضه»: «تذكرت إبراهيم كثيراً هنا، في هذه اللحظات، فإبراهيم من مخيم عين السلطان وأنا من مخيم النويعمة، وبين المخيمين واد عميق تتدفق مياهه شتاء ولكنه يجف صيفا، والمسافة أقل من نصف كيلو متر، وأنا وإبراهيم من قريتين من قرى الخليل، هو من الدوايمة وأنا من ذكرين، وهكذا فنحن جيران، وطفولتنا متشابهة ومزاجنا الريحاوي تحديداً متقارب».
ويبلغ شجن أبو شاور درجة الغليان وهو يتحدث عن مهد طفولته: «آه. هذه المدينة حبيبة طفولتي، أحزاني وجوعي وعريي في أريحا، حبي الأول، خفقة قلبي الأولى، الكتاب الأول الذي قرأته»..
إنه حنين الطفل إلى الثدي، حنين شقوق الأرض إلى ماء المطر.. وكان ألم أبو شاور مزمناً وقاهراً وهو يواصل حديثه عن المخيم:
«مخيمنا هدم.. أحضروا 24 جرافة وهدموا بيوته الطينية، ولم يُبقوا سوى المدارس والعيادة والمطعم وهي كلها مبانٍ تابعة لوكالة الغوث»..
«رائحة التمر حنة» نصوص بكائية حملت رائحة الطين في شتاء أريحا القصير.. وحملت نضوج رشاد أبو شاور القاص والروائي والمناضل المفكر، الذي «تعفّرت» قدماه الحافيتان من غبار طرقات المخيم المتربة، ذلك الغبار الذي اشتاق أبو شاور لأيامه فكتب «آه يا وطني»، ووجد نفسه ينداح باتجاه النهر تجذبه رائحة «التمر حنة»، ليقف خاشعاً بين يدي الوطن الجريح، حاملاً قلمه الذي لا يملك سواه، لتملي عليه ذاكرته وذاكرة الوطن ملحمة الشعب والحلم بالعودة..
قرأت كتباً كثيرة أطفأت حروفُها بصرَ عيني، فجاء هذا الكتاب ليعيد لي إبصاري بحروفه المكتوبة برائحة الوطن وعبق الماضي، وكأن أبو شاور يكتب فيه عنا جميعا، فالأرض نعرف عدد حبات ترابها، والأسماء زاملناها وعشنا معها أيامها.. وكل ما ذكره الكاتب في «رائحة التمر حنة» عن أريحا ومخيماتها كان صحيحاً وصادقاً.. فأنا ابن مخيم النويعمة، وقد تزاملت مع رشاد في المدرسة والحارة، وأيام الطفولة، أما بقية الأماكن التي أورد رشاد ذكرها وتفاصيل زيارته لها فقد أبدع بتسجيل تفاصيلها أيما إبداع، بذاكرة وجدانية صادقة.
قارئ «رائحة التمر حنة» لن يمل من القراءة، وسيجد نفسه أمام عمل أدبي رصين يؤرخ للمكان والذاكرة والناس والوطن، بقلم مغموس بالخبرة.. قلم يكتب بتراب الأرض، وتعب الأيام، ودم المشردين وعرَق وخوف الملهوفين المعذبين في الأرض، كل أرض..
«في إفريقيا رسموا المسيح أسود.. وفي اليابان وجنوب شرقي آسيا رسموه على (أيقوناتهم) بملامح يابانية وجنوب آسيوية.. وعندنا ظل مسيحنا كما هو، بوجه لونه لون القمح، وعينين سوداوين، وأمه بثوبها الفلسطيني تضمه إلى صدرها، تتشبت، كأنما كانت بحدس الأم وغريزتها تتوقع ما هو آت!».
«هنا في بيت لحم، دفّأونا بالبطاطين، وحشوا بطوننا بحساء دافئ وخبز كثير، هنا تناول الأطفال الفلسطينيون (أسرار) وطنهم بعد نكبة 48 وصاروا يتعرفون على المكان، والزمان، والآذان، وقرع الأجراس، وستنا مريم، وسيدنا عيسى، والصليب... والله أكبر على من طغى وتجبّر»..
«رائحة التمر حنة» رحلةُ وجدان كاتب في أشجان وطن..